فضل الزهد في الدنيا
من أراد أن يعرف قيمة شئ فلينظر إلى قيمته في القرءان الكريم..
فما رأى القرآن عظمه فليعظمه..
وما رأى القرآن قلله وحقره فليقلله..
وبذلك يمتلك الإنسان نظرة ثاقبة للأمور..
ويستطيع أن يزنها بميزانها الصحيح..
لقد ذكر الله عز وجل الدنيا في كتابه وحقر من شأنها، وبين أنها غرور وتفاخر وتكاثر، وبعدها حساب وعقاب لا مفر منه..
قال تعالى:
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) سورة الحديد
فالإنسان مهما عاش فيها، وطال عمره، وكثر ماله، وكثر أتباعه لابد وأن يفارقهم أو يفارقوه..
وفي النهاية يعرف أن هذه الدنيا لم تكن سوى أحلام وأوهام..!
وأن الذي كسبه من الدنيا هو العمل الصالح الذي ينقله إلى دار السلام.
وقد نهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم عن إطالة النظر للدنيا وتمنيها فقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}سورة طه.
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية:
من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا.
وقد ذم الله ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)سورة المنافقون.
وفي مقابل ذلك فقد مدح الله تعالى من لم تشغله الدنيا عن ذكره فقال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} سورة النور .
وقد أخبر الحبيب المصطفى أن أكثر أهل الجنة الفقراء، وأن الأغنياء محبوسون على باب الجنة ليسألوا عن أموالهم فيم أنفقوها؟ فلا بد أن نتزود من الأعمال الصالحة، ونزهد في هذه الدنيا الفانية.
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في منزلة الدنيا:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إلا عَيْشَ الآخِرَةِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِأنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ بُؤسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقُولُ: لا وَاللهِ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلا رَأيْتُ شِدَّةً قَطُّ». رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُم يُحِبُّ أنْ هَذَا لَهُ بِدرْهَم؟» فقالوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟»قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا، أنَّهُ أسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ ميِّتٌ! فقال: «فوَاللهِ للدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». رواه مسلم
(والأسكّ) هو الصغير الأذن، أي فيه عيب فلا يفضل الناس اقتناءه.
وعن أَبي ذر رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حَرَّةٍ بِالمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قلت: لَبَّيْكَ يَا رسولَ الله. فقال: «مَا يَسُرُّنِي أنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضي عَلَيَّ ثَلاَثَةُ أيّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إلا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إلا أنْ أقُولَ بِهِ في عِبَادِ الله هكذا وَهَكَذَا وَهكَذَا» عن يَمِينِهِ وعن شِمَالِهِ وَعَنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ سَارَ، فقال: «إنَّ الأَكْثَرينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هكَذَا وَهكَذَا وَهكَذَا» عن يمينِهِ وعن شِمَالِهِ وِمنْ خَلْفِهِ «وَقَلِيلٌ مَا هُمُ» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن، فصحبت الفقراء فاسترحت.
وعنه رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ سَبعِينَ مِنْ أهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ: إمَّا إزارٌ، وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوها في أعنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ، فقال: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ».
وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، يقول: إِذَا أمْسَيتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري.
ومعناه: لا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ البَقَاءِ فِيهَا، وَلا بِالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إلا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَريبُ في غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلا تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لا يَشْتَغِلُ بِهِ الغَرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهَابَ إِلَى أهْلِهِ.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأ بِهِ بَطْنَهُ. رواه مسلم.
والدقل : هو ردئ التمر.
في هذا الحديث يظهر زهده صلى الله عليه وسلم وصبره، وحقارة الدنيا عنده، فإن الله تعالى خيره في أنْ يكون ملكًا نبيًا أو عبدًا نبيًا فاختار أن يكون عبدًا، وقال: «يَا رَبِّ، أَجُوعُ يَوْمًا وأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ سألتك، وَإِذَا شَبِعْتُ شكرتك».
وعن عمرو بن الحارث أخي جُوَيْرِيّة بنتِ الحارِث أُمِّ المُؤْمِنِينَ، رضي الله عنهما، قَالَ: مَا تَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِينارًا، وَلا دِرْهَمًا، وَلا عَبْدًا، وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا إلا بَغْلَتَهُ الْبَيضَاءَ الَّتي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلاَحَهُ، وَأرْضًا جَعَلَهَا لاِبْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً. رواه البخاري.
وعن خَبابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأكُل منْ أجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ- رضي الله عنه، قُتِلَ يَوْمَ أُحُد، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ، بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، بَدَا رَأسُهُ، فَأمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنْ نُغَطِّي رَأسَهُ، وَنَجْعَل عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأصْحَابُ الجَدِّ مَحبُوسُونَ، غَيْرَ أنَّ أصْحَابِ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِم إِلَى النَّارِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
المصدر/ شرح رياض الصالحين.
جمع وترتيب :أ. زينب الكيلاني