الأعمال بالخواتيم
حياة الإنسان في هذه الدنيا محدودة، وأنفاسه معدودة محسوبة، آماله تُطوى، وعمره يفنى، وبدنه تحت الثرى يبلى، يقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: «ما منكم من أحد إلا وهو ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مردودة».
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والسعيد من ختم له بخير، والشقي من ختم له بسوء وشقاء. فمن عاش على شيء مات عليه، والأعمال بخواتيمها.
قال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ النَّارِ فَيَدخُلهَا ، وَإِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ النَّارِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ فَيَدخُلُهَا ) رواه البخاري ومسلم
وبكى بعض الصحابة عند موته، فلما سئل ما يبكيك قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار) ولا أدري في أي القبضتين كنت؟
والحديث رواه أحمد في المسند وإسناده صحيح.
قال بعض السلف:
ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق!
وقال سفيان الثوري رحمه الله لبعض الصالحين:
هل أبكاك قط علم الله فيك؟
فقال الرجل: تركني لا أفرح أبدا.
وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم فكان يبكي ويقول:
أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا، أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت.
يقول الله عز وجل:
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖوَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) سورة إبراهيم 27.
فإذا كنا الآن في كامل قوانا العقلية، ومع ذلك نضعف لوسوسة الشيطان ، ونقع في الزلل..
فكيف بنا في تلك اللحظات العصيبة..
لحظات الاحتضار..
والعبد في غاية الضعف والكرب..
في سكرة لا يدري ما يقول..
ما أحوج العبد في ذلك المقام إلى تثبيت ربه وعونه..!
لكن لابد أن يكون قد قدّم من الأعمال ما يثبته في تلك اللحظات..
فإن العمل الصالح من أعظم أسباب الثبات..
ودليل ذلك في كتاب الله:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) سورة النساء.
ولعل عملا يسيرا في لحظة صدق يكون نجاة لصاحبه وفوزا بحسن الخاتمة..
فقد أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة ؟ ثم يقول : هو عمرو بن ثابت.
قال : كان يأبى الإسلام ، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس فقاتل حتى وقع جريحا ، فوجده قومه في المعركة فقالوا : ما جاء بك ؟
أشفقة على قومك ، أم رغبة في الإسلام ؟
قال : بل رغبة في الإسلام..
قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه من أهل الجنة “.
جاء في صحيح مسلم ( ولا تحقرن من المعروف شيئاً )
فالخير مهما قل أو صغر فإنه محبوب لله وإذا تقبله الله فهو عند الله عظيم فلا تحتقر أي عمل فقد تدخل الجنة بعمل يسير أو تؤثر بالناس بعمل قليل ( فمن يعمل مثقال ذرة ) والأمثلة في الشرع كثيرة:
ومنها: الرجل الذي سقى كلبا فشكر الله عمله وغفر له.
ومن ذلك أيضا ما رواه مسلم: رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين.
وفي الصحيحين ” اتقوا النار ولو بشق تمرة “
قال الإمام ابن الهمام الحنفي رحمه الله:
(وأعظم المسائل وأهمها سؤال حسن الخاتمة، والرضوان والمغفرة).
فحريّ بالإنسان أن يسأل الله الثبات ويدعو بحسن الخاتمة..
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:( وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن ادم منه في حال الموت ، يقول لأعوانه : دونكم هذا ، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه بعد اليوم .
فإذا عرف المسلم عظم أمر فتنة الممات عند الاحتضار..
وأنه على موعد مع كرب عظيم..
استعد لذلك اليوم ، وتزود من العمل الصالح ، ورجى أن يكتب الله له حسن الخاتمة.
فإن الله تعالى يحمي عبده المؤمن ، وإذا رأى منه صدق القلب والمحبة ، عصمه وصرف عنه الغواية.
فلا يظنن أحد السوء بالله تعالى ، فهو عدل كريم ، لا يخذل عبده المؤمن..
وهو سبحانه الذي حرم على نفسه الظلم ، فلا تجد من يفتنه الشيطان في مثل هذه المواقف إلا من كان معرضا عن الله..
مقبلا على الشيطان ، فذلك هو الذي يتخبطه الشيطان عند الموت ، كما تخبطه في الحياة .
يقول ابن القيم رحمه الله في “الجواب الكافي”:
” فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره ، واتبع هواه وكان أمره فرطا!!
فَبَعِيدٌ مَن قَلبُه بعيد من الله تعالى..
غافل عنه..
مُتَعَبَّدٌ لهواه..
مُسَيَّرٌ لشهواته..
ولسانه يابس من ذكره..
وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصية الله ، أن يوفق لحسن الخاتمة “.
المصدر:
كتاب: من توفي من العلماء وهو ساجد، د.محمد الفارسي.
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
جمع وترتيب :أ. زينب الكيلاني